هدفنا من وراء الأقوال والأفعال والحركات والسكنات وغايتنا من وراء التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل هو: مرضاة ربنا جل وعلا وأن تزكو نفوسنا وتطهر بحيث تستحق أن ينادى عليها على أبواب الجنة: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر:73]، وقد أقسم سبحانه أحد عشر قسما متوالياً على أنه لا يستحق الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا من زكت نفسه وصفت, فقال سبحانه
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:1- 10].
وهذا الالتزام الخلقي من شأنه أن تتحقق به سعادة الفرد والمجتمع في الدارين في العاجل والآجل، فالإيمان بالله واليوم الآخر ليس معناه هجران الحياة ودخول الخرائب كما هو شأن بعض الصوفية !! والتطور والتحضر والتقدم ليس معناه الكفر بخالق الأرض والسماوات والعبَّ من الشهوات المحرمة كما هو شأن الغرب المادي، والناس في هذه وغيرها طرفا نقيض بين إفراط وتفريط وبين غلو وجفاء، وإسراف وتقصير, والعدل أساس الملك وبه قامت السماوات والأرض، يقول الغزالي : "لا وصول إلى الله تعالى إلا بالتنزه عن الشهوات والكف عن اللذات والاقتصار على الضرورات فيها" .وهذا الكلام يصح فيما لو كانت الشهوات واللذات محرمة، وإلا فلا يسعنا تحريم الحلال أو تحجير الواسع أو التضييق على الخلق كما لا يسعنا تحليل الحرام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) [البقرة:168]، وقال تعالى
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف:31-32].
كان البعض يقول : متاع الغرور ما ألهى صاحبه عن طلب الآخرة، أمَّا ما لم يلهك عن طلب الآخرة فهو متاع بلاغ إلى ما هو أبلغ منه.
فذم الدنيا لا ينصرف إلى زمانها أو مكانها ولكن ينصب على أفعال العباد المخالفة لشرع الله. فلابد من تعمير الدنيا بطاعة الله، وإقامة حضارة على منهاج النبوة وأن ندور مع إسلامنا حيث دار، فالحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله والدين ما شرعه الله وليس لنا إلا أن نقول
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة:285]
**علاقة الأخلاق بالعبادة:***
العبادة مفهوم واسع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فالصلاة عبادة والصوم والحج والزكاة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عبادة، وكذلك جهاد الكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والرفق والشفقة والدعاء والذكر وتلاوة القرآن, وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه والشكر لنعمه، والرضا بقضائه والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف من عذابه.. كلها داخلة في مفهوم العبادة، وذلك أن العبادة هي كمال الحب مع تمام الخضوع والذل وهى الغاية التي لأجلها خلق الله الخلق، قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذريات:56 - 58].
وقد أخطأ من توهم أن العبادة قاصرة على الصلاة والصيام والحج ... فحسب فالدين كله داخل في العبادة وهى شاملة للسياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق وجميع نواحي الحياة قال تعالى
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162، 163].
ومن هنا تكون فضائل الأخلاق ومكارمها داخلة في إطار الدين وركناً أساسياً من أركان العبادة. إنَّ الأوامر التي وردت في الكتاب والسنة وتعلقت بالصلاة والصيام لا تنفصل عن الأوامر التي تعلقت بالصدق والعدل، ولا بد من تعظيم شعائر وشرائع الله وان نقول
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة: من الآية285)
نحن نرفض اعتبار الأخلاق عادات وتقاليد كما نرفض أيضا الانبهار بالفلسفات والذوقيات والعقلانيات المخالفة لدين الله واعتبار الصوفية أو الفلاسفة أصحاب قصب السبق في النواحي الأخلاقية والتأصيل لها لأنه أمر يتجافى مع الحق والحقيقة فالبشرية قد بدأت بنبي مُكَلَّم هو آدم عليه السلام وتتابع بعده الرسل (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر: من الآية24)). والدين واحد (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) [آل عمران:19] وإنما تعددت الشرائع، وشريعة الإسلام حاكمة ومهيمنة على سائر الشرائع. وقد اتفقت الشرائع في هذه الأمور الخمس المذكورة في سورة الأعراف (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف:33].
**علاقة الأخلاق بالإيمان:***
ورد في الحديث: " الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شعبة من الإيمان " متفقٌ عليه، فالإيمان شعب، ويزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأهل الإيمان يتفاضلون ويتفاوتون في درجات الإيمان، وإذا كان الحياء شعبة من الإيمان فعدم الحياء شعبة من شعب الكفر، وقس على ذلك الكذب والغدر.
وقد وردت روايات تدل على العلاقة الوثيقة بين الأخلاق والإيمان، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في جواب أي المسلمين أفضل ؟ قال :" من سلم المسلمون من لسانه ويده ".( رواه مسلم) وقوله صلى الله عليه وسلم : "لا تحاسدوا ولا تباغضوا, ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض, وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا - وأشار إلى صدره ثلاثاً - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"[رواه مسلم] والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما خلاصته: "إذا كان الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، وأنه لابد فيه من شيئين : الأول تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته وهذا هو التوحيد، وآخر عمل القلب وهو التوكل على الله وحده ونحو ذلك من حب الله ورسوله وحب ما يحب الله ورسوله وإخلاص العمل لله وحده كانت أعمال القلب من الحب والإخلاص والخشية والتوكل ونحوها داخلة في الإيمان بهذا المعنى وكانت الأخلاق الكريمة داخلة فيه أيضاً وأما البدن فلا يمكن أن يتخلى عن مراد القلب لأنه إذا كان في القلب معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهى القلب " متفق عليه . إن الإيمان بذلك هو مناط تكوين القيم الخلقية والاجتماعية ونحوها، وهو أيضا مصدر الإلزام الخلقي، لأنه هو المسيطر على كل غرائز الإنسان وشهواته، والمتحكم في أحاسيسه ودوافعه . إن الإيمان قول وعمل، والأخلاق الكريمة أقوال وأفعال لا تنفك عن معنى الإيمان، فالإيمان هو البر والهدى والتقى والإسلام والبصيرة وهو أيضاً العلم النافع والعمل الصالح.
**الأخلاق والنفس البشرية***
الأخلاق الكريمة تتوافق مع العقول السليمة والفطرة المستقيمة، وبها بعثت الرسل وأُنزلت الكتب قال تعالى
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم:30]، فالله سبحانه خلق قلوب بنى آدم مؤهلة لقبول الحق، وبالفطرة يتدل الإنسان على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به و"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " رواه البخاري .
فالعبد في سيره إلى الله عليه أن يعلم قِدَم الصراع بين الخير والشر وسننَ التدافع بين الإيمان والكفر وبين أصحاب الصراط المستقيم من جهة والمغضوب عليهم والضالين وأصحاب المناهج الوضعية من جهة أخرى،والإنسان يتنازعه ويتصارع عليه الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء مما له أبلغ الأثر على أخلاق الإنسان وسلوكه وهذا هو موطن الابتلاء، قال تعالى
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف:7].
لقد قيل إن للإنسان ثلاثة أنفس: أمارة بالسوء ولوَّامة ومطمئنة، والصحيح أنها نفس واحدة لها ثلاث حالات، فأحيانا تكون أمارة بالسوء تحض على الشر والفجور وهذه قرينها الشيطان، وأحيانا تكون لوامة وهى التي تلوم صاحبها لم قلت كذا ولم فعلت كذا وكان كذا أولى من كذا وقيل هي نفس المؤمن التي أقسم بها سبحانه فقال: (ولا أقسم بالنفس اللوامة) وأحيانا تكون مطمئنة وهى التي ألهمها الله التقوى، تلوم صاحبها على السيئات وتدفعه إلى التوبة والاستغفار، وهذه النفس قرينها الملك يسددها ويوفقها وهى المذكورة في قوله تعالى
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر:27 - 30]، فعلى العبد أن يضرع إلى ربه في صلاح نفسه وأن يدعو ربه " اللهم أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا تكلني إلى أحد من خلقك ، اللهم أعط نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.