افتتح ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن"، باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه، بقوله: "إنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب، وافتتانها في الأساليب، وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات، فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة والبيان واتساع المجاز ما أُوتيته العرب".
وحاصل ما ذكره ابن قتيبة في هذا الباب هو، أن التعبير بالماضي عن المستقبل، وبالمستقبل عن الماضي، إنما هو مذهب من مذاهب العرب في كلامها، وتفنن في أساليب خطابها، وإيقاع أحدهما موقع الآخر لا يخلو من نكتة بلاغية، أو لفتة بيانية، كدلالة المضارع على التجدد، والماضي على التحقيق.
وقد بيَّن علماء العربية هذا الأسلوب من البلاغة، وأكدوا على أهميته في الكلام، يقول أبو حاتم في هذا الصدد: "اتسعت العرب فجعلوا (فَعَلَ) في مواضع لما لم ينقطع بعد، وجعلوا (يفعل) وأخواتها لما قد كان".
وقد نزل القرآن بلسان العرب وعلى مذاهبها في الكلام، وجرى على هذا الأسلوب في إبلاغ رسالته للناس أجمعين. وقد بيَّن المفسرون حقيقة هذا الأسلوب؛ فوصفه أبو حيان بأنه نوع "من التفنن في الكلام، والتصرف في البلاغة".
وذكر الآلوسي أن "الأفعال المستقبلة التي علم الله تعالى وقوعها كالماضية في التحقق؛ ولذا عبر عن المستقبل بالماضي في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز". وقد ذكر ابن الأثير أن "كثيراً ما يراعى أمثال هذا في القرآن".
وكان مسلك القرآن مع هذا الأسلوب قد اتخذ منحيين، فتارة يُعبِّر بالماضي مريداً به المستقبل، وتارة يُعبِّر بالمستقبل مريداً به الماضي، ولكل منحى غرض وغاية، نقفك عليها تالياً.
التعبير بالماضي عن المستقبل
فائدة هذا الأسلوب -كما قال ابن الأثير- أن الفعل الماضي إذا أُخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد، كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده؛ لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان وُجِد، وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يُستعظم وجودها.
وقال السبكي في هذا الصدد: "والفائدة في الفعل الماضي إذا أُخبر به عن المستقبل الذي لم يوجد، أنه أبلغ وأعظم موقعاً؛ لتنزيله منـزلة الواقع"، وقال أخرى: "وفائدة التعبير بالماضي الإشارة إلى استحضار التحقق، وأنه من شأنه لتحققه، أن يُعبَّر عنه بالماضي، وإن لم يرد معناه".
والقارئ لكتب التفسير كثيراً ما يقف على عبارات للمفسرين من مثل قولهم: "التعبير بالماضي في قوله...تنبيهاً على تحقيق وقوعه"، وقولهم: "ومجيء الفعل بصيغة الماضي؛ للتنبيه على تحقيق وقوعه"، وقولهم: "وجيء به بصيغة الماضي لشبهه بالماضي في تحقق الوقوع"، ونحو هذا من العبارات الدالة على أن المقصد من هذا الأسلوب ما سيقع بالمستقبل كأنه واقع أو قد وقع.
والمثال القرآني الأبرز والأشهر في الاستدلال على هذا الأسلوب، قوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (النحل:1)، فجيء بالماضي {أتى} المراد به المستقبل المحققُ الوقوع؛ بقرينة قوله: {فلا تستعجلوه}؛ لأن النهي عن استعجال حلول ذلك اليوم يقتضي أنه لما يحل بعد.
ومن الأمثلة على هذا الأسلوب، قوله تعالى: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض} (النمل:
، فإن قوله: {ففزع} لا يمكن أن يراد به المضي لمنافاة الذي هو مستقبل في الواقع. وإنما عبر بالماضي مع كونه معطوفاً على مضارع. للدلالة على تحقق الوقوع.
ومنه قوله سبحانه: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض} (الزمر:68)، وقوله تعالى: {وسيق الذين كفروا} (الزمر:71)، وقوله عز وجل: {وسيق الذين اتقوا} (الزمر:73)، قال الشيخ الشنقيطي في أثناء تفسيره لهذه الآيات: "فهذه الأفعال الماضية المذكورة في الآيات بمعنى المستقبل؛ تنزيلاً لتحقق الوقوع منزلة الوقوع بالفعل، ونظائرها كثيرة في القرآن. وهذا الذي ذكرنا - من أن الأفعال الماضية بمعنى المستقبل هو الصواب إن شاء الله".
ومن هذا القبيل قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور} (البقرة:210)، الفعل الماضي هنا {وقضي} مراد منه المستقبل، ولكنه أتى فيه بالماضي؛ تنبيهاً على تحقيق وقوعه، أو قرب وقوعه. والمعنى: ما ينتظرون إلا أن يأتيهم الله، وسوف يقضى الأمر.
وقوله تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى} (الأنعام:94)، من التعبير بالماضي عن المستقبل القريب، مثل قول المؤذن: قد قامت الصلاة، فهي لم تقم بعد، ولكنها قريبة القيام. وهنا الآية أيضاً تخاطب المعرضين عن ذكر، وتقول لهم: إن قرب مجيئكم إلى الله، ووقوفكم بين يديه أمر قريب، غير بعيد.
وقوله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} (البقرة:166)، جاء بصيغة الماضي {ورأوا}؛ للتنبيه على تحقيق وقوعه، والقرينة قوله سبحانه في الآية بعدُ: {كذلك يريهم الله} (البقرة:167) الذي هو مستقبل؛ إذ ليست الرؤية المذكورة بحاصلة في الحال، فكأنه قيل: (لما يرون العذاب).
وقوله عز وجل: {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} (الكهف:47)، جاء بصيغة الماضي في {وحشرناهم}، بعد المستقبل {نسير}، و{ترى}؛ للدلالة على أن حَشْرهم قبل (التسيير) و(البروز)؛ ليشاهدوا تلك الأحوال، كأنه قال: وحشرناهم قبل ذلك؛ لأن الحشر هو المهم؛ لأن من الناس من ينكره، ومن أجل ذلك ذُكر بلفظ الماضي.
وعلى هذا السَّنَن يُفهم قوله تعالى: {وقالوا الحمد لله} (الأعراف:43)، وقوله سبحانه: {قد جاءتكم بينة من ربكم} (الأعراف:73)، وقوله عز وجل: {فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا} (الملك:27)، وما جرى هذا المجرى.
التعبير بالمستقبل عن الماضي
فائدة هذا الأسلوب أن المستقبل إذا أُخبر به عن الماضي، تبينت من خلال هذا الأسلوب هيئة الفعل؛ وذلك باستحضار صورته؛ فيكون السامع كأنه شاهد يشهد الحدث الآن. قال ابن الأثير موضحاً فائدة هذا الأسلوب: "اعلم أن الفعل المستقبل، إذا أُتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل، كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي؛ وذاك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة، حتى كأن السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي...وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية، كحال تُستغرب، أو تهم المخاطب، أو غير ذلك". وقد أطلق الزمخشري على هذا الأسلوب مصطلح "حكاية الحال".
ومن الأمثلة على الأسلوب، قوله تعالى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض} (فاطر:9)، فإنه جاء بالفعل {فتثير} مستقبلاً، وما قبله {أرسل}، وما بعده {فسقناه}، و{فأحيينا} ماضياً؛ حكاية للحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضاراً لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة. قال الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ جاء {فتثير} على المضارعة، دون ما قبله وما بعده؟ قلت: ليحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتُستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية".
وعلى وفق هذا الأسلوب جاء قوله سبحانه: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} (الحج:31)، فقال أولاً: {خر من السماء} بلفظ الماضي، ثم عطف عليه المستقبل {فتخطفه}، و{تهوي}، وإنما عدل في ذلك إلى المستقبل؛ استحضاراً لصورة خطف الطير إياه، وهَويِّ الريح به.
ونحو ما تقدم، قوله عز من قائل: {ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} (البقرة:87)، جاء الفعل {تقتلون} بصيغة المضارع عوضاً عن الماضي؛ لاستحضار الحالة الفظيعة، وكأنه مشاهد للعِيان، وهي حالة قتلهم رسلهم؛ لأن الموقف موقف تعجب ودهشة؛ لأن قتل الأنبياء أمر فظيع، فأراد استحضاره في النفوس، وتصويره في القلوب.
ومن هذا القبيل أيضاً، قوله تعالى: {كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما} (الحديد:20) فقد عبر بالمستقبل {يهيج}، و{يكون} عن الماضي، لمنحى دلالي مقصود، وهو أن يظل مشهد الاندثار كأنه حاضر ماثل للعِيان.
ومما يجدر التنبيه إليه هنا، هو أنه ليس كل فعل مستقبل، يُعطف على ماض، جارٍ هذا المجرى، فقد يكون المستقبل المعطوف على الماضي ليس من باب إخبار بمستقبل عن ماض، وإنما هو مستقبل دل على معنى مستقبل غير ماض، ويراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمض.
ويُمثَّل لهذا بقوله سبحانه: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله} (الحج:25)، ففقد عطف المستقبل {ويصدون} على الماضي {كفروا}؛ لأن كفرهم كان قد وُجِد، ولم يستجدوا بعده كفراً ثانياً، في حين أن صدهم عن سبيل الله متجدد على الأيام، لم يمض، وإنما هو مستمر يستأنف في كل حين.
ونحو هذا قوله عز وجل: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} (الحج:63)، فقد عدل عن لفظ الماضي {أنزل} إلى المستقبل {فتصبح الأرض مخضرة}، ولم يقل: (فأصبحت) عطفاً على {أنزل}؛ لإفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان، فإنزال الماء مضى وجوده، واخضرار الأرض باق لم يمض، وهذا كقولك: أنعَمَ عليٌّ فلان، فأروح وأغدوا شاكراً له، ولو قلت: فرحت وغدوت شاكراً له، لم يقع في أذن السامع موقعاً؛ لأنه يدل على ماض قد كان وانقضى. قال ابن الأثير: "وهذا موضع حسن ينبغي أن يُتأمل".
والفرق بين الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل، وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي، أن الغرض من الأول الدلالة على إيجاد الفعل الذي لم يوجد، وتقريبه كأنه كائن، وتأكيداً على أنه سيكون. والغرض من الثاني تبيين هيئة الفعل واستحضار صورته؛ ليكون السامع كأنه يشاهدها.
والمتحصل مما تقدم، أن الأفعال في القرآن تكتسب دلالتها الزمنية من السياق الواردة فيه، لا من بِنيتها الصرفية فحسب، وغالباً ما يكون وراء تحولها ماضياً ومستقبلاً معنى بلاغيًّا.